مفتي أو هيئة فتوى ؟
ذكرنا في الموضوع السابق أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها عضو هيئة الفتوى، ولعل القارئ الكريم يتساءل:
أليس من الأجدر تعيين مفتٍ للدولة يحوي الصفات المذكورة، فنوفر بذلك الجهد المبذول فيما سبق ذكره.
أقول: إن تناول هذه المسألة يحتاج لنوع من التفصيل؛ فاختيار المفتي للدولة تقليد قامت به الدولة الإسلامية منذ القديم؛ ففي السابق كان يحمل صفة القاضي، وفي أواخر الدولة العثمانية حمل صفة شيخ الإسلام، ثم بعد تقسيم الدول الإسلامية قامت بعض الدول الإسلامية بالعمل بهذا التقليد وإن تجاهله البعض الآخر، ولا نستطيع في الحقيقة أن نقلل من شأن هذا المنصب لكن يحق لنا أن نتساءل: هل وجود مفتٍ للدولة يتفرد بحق التمثيل الرسمي للدولة هو الطريق الأمثل، أو أن هناك صوراً أخرى لمن يمثل الإفتاء ويحقق المصلحة المنشودة بشكل أكبر؟
في الحقيقة هناك عدة صور لخدمة المصلحة المطروحة للإفتاء المؤسسي؛ منها مثلا:
1- تعيين مفتٍ للدولة بحيث تحتوي شخصيته العلمية والعملية الصفات آنفة الذكر، ومما يدعم هذا الاتجاه قناعة الشعوب بذلك وتقبلهم له كونه تقليداً موروثاً وعملاً محموداً، لكن إن راعينا جملة التعقيدات في عمل المفتي والتي أطنبنا في ذكرها سابقاً، علمنا أنه من الصعوبة بمكان أن نجد مفتٍ يتمتع بتلك الصفات ولو إجمالاً؛ لأن المفتي وإن أحسن الإفتاء على مذهب أو مذهبيين فمن الصعب إيجاد من يستطيع الإحاطة بمذاهب الفقهاء واختياراتهم الفقهية وأصولهم التي بنوا عليها تلك الاختيارات، وإذا ما قلنا - جدلاً - إن هناك من يتمع بتلك الصفات، فمن أين يجد الوقت الذي يجمع فيه بين صفته العلمية وصفته الرسمية باعتباره ممثلاً للدولة في المنتديات العلمية والسياسية.
2- تشكيل هيئة فتوى تقوم مقام المفتي، وهذا هو المعمول به في دولة الكويت، وأقول من باب التجربة إنها طريقة ناجحة وشكل جديد يقوم مقام المفتي، حيث يتناغم مع ضرورة العصر من جانب دعم معطيات العمل بروح الفريق الواحد، ومن جانب آخر تستطيع أن تغطي غالب الشروط المطلوبة منها لرفع سقف جودة الفتوى الصادرة، ومع ذلك فأنا هنا لا أريد ترجيح صورة على صورة أخرى، بل كل ما هنالك أنني أريد استعراض الصور الممكنة فحسب، وإلا فإن الترجيح بينها يفتقر إلى دراسة دقيقة ومناقشة طويلة.
3- تشكيل هيئة فتوى يترأسها المفتي العالم، وهذا معمول به في بعض البلاد الإسلامية، وهو محمود بشرط أن ينضبط ذلك بلائحة داخلية للهيئة تحوي بعض الشروط المهمة، منها:
أ ) أن لا يتفرد المفتي بفتوى يخالف بها الهيئة، إلا أن يكون غالب أصوات الهيئة ترجح رأيه المختار، وفي حال مخالفة غالبية الأعضاء له فعليه الالتزام برأي الأغلبية.
ب) أن لا يكون من صلاحيات المفتي تشكيل هيئة الفتوى وإلا أصبح ورقة ضاغطة -ولو وجدانياً- على الأعضاء، ويفضل أن يكون التشكيل من جهة حيادية، وأن يكون رأي المفتي استشارياً فقط.
ت) أن لا يكون للمفتي صلاحيات إدارية ضد أي عضو من أعضاء الهيئة، لكن له الحق عند المشاحة في الحقوق الإدارية اللجوء لجهة إدارية قانونية.
ث) يكون اعتماد الفتوى الصادرة لجهة إدارية عُليا، وهذا الشرط ينبغي أيضاً أن يضاف إلى الصورة السابقة. وتكمن أهميته في أن صدور الفتوى بتوقيع الأعضاء الموافقين على فحوى الفتوى دون المعارضين يسبب بلبلة واختلافاً في الرأي لدى شرائح المجتمع؛ كون المسألة خلافية، وربما تُغمز الفتوى بالضعف، أو ـ وهذا ممكن جداً ـ تصبح الهيئة عبارة عن أحزاب لدى المجتمع، فمنهم من يناصر هؤلاء ومنهم من يناصر هؤلاء، وبالتالي تفقد الفتوى المؤسسية معناها، فبدلاً من أن تكون جامعة لأفراد المجتمع إذا بها مصدر قلقل وتمزق لشرائحه.
ولا تصدر الفتوى رسمياً إلا بعد أن يعتمد المفتي وهيئة الفتوى المحضر الصادر عن اجتماعهم ، أما اعتماد الفتوى الورقية – المستخرجة من المحضر المعتمد - فهو عمل إداري أكثر منه علمي، فيترك للجهة الإدارية حتى يستبعد المفتي عن موطن الشبهات من تأخير إصدار فتوى دون أخرى.
وأخيراً وليس آخراً؛ أرجو أن أكون من خلال هذه السطور، استطعت أن ألفت الانتباه لمثل هذه المؤسسات، وأن أبين مدى أهميتها، بل وأن وجودها ضرورة تمليها حاجة المجتمعات الإسلامية لها؛ لا سيما في هذا الوضع ذي الظرف الخاص والذي تعيشه المجتمعات المسلمة اليوم. انتهى.
بقلم / تركي عيسى المطيري
مدير إدارة الإفتاء